قال شيخ الإِسَلام:
هـذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من (كتب التفسير) إلا ما هو خطأ:
منها قوله: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ} الآية [البقرة:81]، ذكر أن المشهور أن (السيئة) الشرك، وقيل: الكبيرة يموت عليها، قاله عكرمة. قال مجاهد: هي الذنوب تحيط بالقلب .
قلت: الصواب ذكر أقوال السلف، وإن كان فيها ضعيف فالحجة تبين ضعفه، فلا يعدل عن ذكر أقوالهم لموافقتها قول طائفة من المبتدعة، وهم ينقلون عن بعض السلف أن هذه الآية أخطأ فيها الكاتب كما قيل فى غيرها، ومن أنكر شيئا من القرآن بعد تواتره استتيب، فإن تاب وإلا قتل، وأما قبل تواتره عنده فلا يستتاب، لكن يبين له، وكذلك الأقوال التى جاءت الأحاديث بخلافها؛ فقها، وتصوفا، واعتقاداً، وغير ذلك .
وقول مجاهد صحيح، كما في الحديث الصحيح: (إذا أذنب العبد نكتَ فى قلبه نكتة سوداء) إلخ..، والذي يغشى القلب يسمى (رَيْناً) و(طَبْعاً) و(خَتْماً) و (قُفْلا) ونحو ذلك، فهذا ما أصر عليه. و(إحاطة الخطيئة): إحداقها به فلا يمكنه الخروج، وهذا هو البَسْل بما كسبت نفسه، أي: تحبس عما فيه نجاتها فى الدارين؛ فإن المعاصي قيد وحبس لصاحبها عن الجَوَلان فى فضاء التوحيد، وعن جَنْى ثمار الأعمال الصالحة.
ومن المنتسبين إلى السنة من يقول: إن صاحب الكبيرة يعذب مطلقاً،والأكثرون على خلافه، وأن الله ـ سبحانه ـ يزن الحسنات والسيئات، وعلى هذا دل الكتاب والسنة وهو معنى الوزن، لكن تفسير السيئة بالشرك هو الأظهر؛ لأنه ـ سبحانه ـ غاير بين المكسوب والمحيط، فلو كان واحداً لم يغاير، والمشرك له خطايا غير الشرك أحاطت به لأنه لم يتب منها.
وأيضا، قوله: {سَيِّئَةً} نكرة، وليس المراد جنس السيئات بالاتفاق .
وأيضا، لفظ (السيئة) قد جاء فى غير موضع مرادا به الشرك وقوله: {سَيِّئَةً} أي:حال سيئة أو مكان سيئة ونحو ذلك،كما في قوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة:201]، أي حالاً حسنة تعم الخير كله، وهذا اللفظ يكون صفة، وقد ينقل من الوصفية إلى الاسمية؛ ويستعمل لازما أو متعديا يقال: ساء هذا الأمر،أي: قَبُح، ويقال: ساءنى هذا، قال ابن عباس فى قوله: {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس:27]: عملوا الشرك؛ لأنه وصفهم بهذا فقط، ولو آمنوا لكان لهم حسنات، وكذا لما قال: {كَسَبَ سَيِّئَةً} لم يذكر حسنة، كقوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى} [يونس:26] أي: فعلوا الحسنى، وهو ما أمروا به، كذلك (السيئة) تتناول المحظور فيدخل فيها الشرك .
وقال شيخ الإِسَلام ـ قدَّسَ اللَّه روحهُ :
فصــل
قال الله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون:17]، وقال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} [الأعراف:6، 7]، وقد قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، قال طائفة من السلف: الغيب هو الله، أو من الإيمان بالغيب الإيمان بالله. ففي موضع نفى عن نفسه أن يكون غائباً، وفى موضع جعله نفسه غيباً.
ولهذا اختلف الناس في هذه المسألة، فطائفة من المتكلمين من أصحابنا وغيرهم ـ كالقاضي وابن عقيل [هو أبو الوفاء على بن عقيل البغدادى، عالم العراق وشيخ الحنابلة ببغداد فى وقته، اشتغل بمذهب المعتزلة فى حداثته، وقال عنه ابن حجر: نعم كان معتزليا، ثم أشهد على نفسه أنه تاب عن ذلك وصحت توبته، له تصانيف كثيرة، منها ـ كتاب الفنون ـ الذى يزيد على أربعمائة مجلد، توفى سنة 315هـ] وابن الزاغونى [هو أبو الحسن على بن عبيد الله بن نصر بن الزاغونى، مؤرخ فقيه، من أعيان الحنابلة، له تصانيف كثيرة فى الفقه والأصول والحديث، منها:الإقناع والواضح وغيرهما . ولد سنة 455 هـ، وتوفى سنة 527 هـ] يقولون بقياس الغائب على الشاهد، ويريدون بالغائب الله، ويقولون: قياس الغائب على الشاهد ثابت بالحد والعلة والدليل والشرط. كما يقولون فى مسائل الصفات في إثبات العلم والخبرة والإرادة وغير ذلك. وأنكر ذلك عليهم طائفة منهم الشيخ أبو محمد فى رسالته إلى أهل رأس العين، وقال: لا يسمى الله غائباً،واستدل بما ذكر .
وفصل الخطاب بين الطائفتين:أن اسم (الغيب والغائب) من الأمور الإضافية يراد به ما غاب عنا فلم ندركه،ويراد به ما غاب عنا فلم يدركنا؛وذلك لأن الواحد منا إذا غاب عن الآخر مغيبا مطلقاً لم يدرك هذا هذا ولا هذا هذا، والله ـ سبحانه ـ شهيد على العباد، رقيب عليهم، مهيمن عليهم، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء، فليس هو غائباً، وإنما لما لم يره العباد كان غيبا؛ولهذا يدخل فى الغيب الذى يؤمن به وليس هو بغائب؛ فـإن (الغائب) اسم فاعـل مـن قـولك:غـاب يغيب فهـو غائب والله شاهـد غير غائب، وأما (الغيب) فهو مصدر غاب يغيب غيباً، وكثيراً ما يوضع المصدر موضع الفاعل كالعدل والصوم والزور، وموضع المفعول كالخلق والرزق ودرهم ضرب الأمير.
ولهذا يقرن الغيب بالشهادة، وهى أيضاً مصدر، فالشهادة هى المشهود أو الشاهد، والغيب هو إما المغيب عنه فهو الذى لا يشهد نقيض الشهادة، وإما بمعنى الغائب الذي غاب عنا فلم نشهده فتسميته باسم المصدر فيه تنبيه على النسبة إلى الغير، أى:ليس هو بنفسه غائبا، وإنما غاب عن الغير أو غاب الغير عنه.
وقد يقال:اسم (الشهادة،والغيب) يجمع النسبتين، فالشهادة ما شهدنا وشهدناه، والغيب ما غاب عنا وغبنا عنه فلم نشهده، وعلى كل تقدير فالمعنى فى كونه غيبا هو انتفاء شهود ناله، وهذه تسمية قرآنية صحيحة، فلو قالوا: قياس الغيب على الشهادة لكانت العبارة موافقة، وأما قياس الغائب ففيه مخالفة فى ظاهر اللفظ ولكن موافقة فى المعنى؛ فلهذا حصل فى إطلاقه التنازع.
وقال شيخ الإِسَلام ـ قدَّسَ اللَّه روحهُ :
فصــل
المثل فى الأصل: هو الشبيه وهو نوعان؛ لأن القضية المعينة إما أن تكون شبهاً معيناً أو عاما كليا؛ فإن القضايا الكلية التى تعلم وتقال هى مطابقة مماثلة لكل ما يندرج فيها، وهذا يسمى قياساً في لغة السلف واصطلاح المنطقيين.
وتمثيل الشىء المعين بشىء معين هو ـ أيضاً ـ يسمى قياساً فى لغة السلف واصطلاح الفقهاء، وهو الذى يسمى قياس التمثيل.
ثم من متأخرى العلماء ـ كالغزالى وغيره ـ من ادعى أن حقيقة القياس إنما يقال على هذا، وما يسميه تأليف القضايا الكلية قياساً فمجاز من جهة أنه لم يشبه فيه شىء بشىء، وإنما يلزم من عموم الحكم تساوى أفراده فيه، ومنهم من عكس كأبى محمد ابن حزم، فإنه زعم أن لفظ القياس إنما ينبغى أن يكون فى تلك الأمور العامة وهو القياس الصحيح.
والصواب ما عليه السلف من اللغة الموافقة لما فى القرآن ـ كما سأذكره ـ أن كليهما قياس وتمثيل واعتبار، وهو فى قياس التمثيل ظاهر، وأما قياس التكليل والشمول فلأنه يقاس كل واحد من الأفراد بذلك المقياس العام الثابت فى العلم والقول، وهو الأصل، كما يقاس الواحد بالأصل الذى يشبهه، فالأصل فيهما هو المثل،والقياس هو ضرب المثل، وأصله ـ والله أعلم ـ تقديره، فضرب المثل للشىء تقديره له،كما أن القياس أصله تقدير الشىء بالشىء،ومنه ضرب الدرهم وهو تقديره، وضرب الجزية والخراج وهو تقديرهما، والضريبة المقدرة والضرب فى الأرض، لأنه يقدر أثر الماشى بقدره، وكذلك الضرب بالعِصِىّ لأنه تقدير الألم بالآلة، وهو جمعه وتأليفه وتقديره، كما أن الضريبة هى المال المجموع والضريبة الخلق، وضرب الدرهم جمع فضة مؤلفة مقدرة، وضرب الجزية والخراج إذا فرضه وقدره على مر السنين، والضرب فى الأرض الحركات المقدرة المجموعة إلى غاية محدودة،ومنه تضريب الثوب المحشو وهو تأليف خلله طرائق طرائق.
ولهذا يسمون الصورة القياسية الضرب،كما يقال للنوع الواحد: ضرب؛ لتألفه واتفاقه،وضرب المثل لما كان جمعاً بين علمين يطلب منهما علم ثالث، كان بمنزلة ضراب الفحل الذى يتولد عنه الولد؛ ولهذا يقسمون الضرب إلى ناتج وعقيم، كما ينقسم ضرب الفحل للأنثى إلى ناتج وعقيم، وكل واحد من نوعى ضرب المثل ـ وهو القياس ـ تارة يراد به التصوير وتفهيم المعنى، وتارة يراد به الدلالة على ثبوته والتصديق به، فقياس تصور وقياس تصديق، فتدبر هذا.
وكثيراً ما يقصد كلاهما، فإن ضرب المثل يوضح صورة المقصود وحكمه. وضرب الأمثال فى المعانى نوعان، هما نوعا القياس:
أحدهما: الأمثال المعينة التى يقاس فيها الفرع بأصل معين موجود أو مقدر، وهى فى القرآن بضع وأربعون مثلا،كقوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا}إلى آخره [البقرة:71]، وقوله: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّة} [البقرة:261]، وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة:265] .
فإن التمثيل بين الموصوفين الذين يذكرهم من المنافقين، والمنفقين والمخلصين منهم والمرائين، وبين ما يذكره ـ سبحانه ـ من تلك الأمثالهو من جنس قياس التمثيل، الذى يقال فيه: مثل الذى يقتل بكودتى القَصَّار [كودتا القَصّار: هما خشبتا القصار. والقصار: هو المحور والمهذب للثياب؛ لأنه يدقها بالقصرة. انظر: لسان العرب، مادة: قصر] كمثل الذى يقتل بالسيف، ومثل الهرة تقع فى الزيت كمثل الفأرة تقع فى السمن ونحو ذلك، ومبناه على الجمع بينهما، والفرق فى الصفات المعتبرة فى الحكم المقصود إثباته أو نفيه، وقوله: مثله كمثل كذا، تشبيه للمثل العلمى بالمثل العلمى؛ لأنه هو الذى بتوسطه يحصل القياس، فإن المعتبر ينظر فى أحدهما فيتمثل فى علمه، وينظر فى الآخر فيتمثل فى علمه ثم يعتبر أحد المثلين بالآخر فيجدهما سواء، فيعلم أنهما سواء فى أنفسهما لاستوائهما فى العلم، ولا يمكن اعتبار أحدهما بالآخر فى نفسه حتى يتمثل كل منهما فى العلم، فإن الحكم على الشىء فرع على تصوره؛ ولهذا ـ والله أعلم ـ يقال: مثل هذا كمثل ... [بياض بالأصل].
وبعض المواضع يذكرـ سبحانه ـ الأصل المعتبر به ليستفاد حكم الفرع منه من غير تصريح بذكر الفرع، كقوله:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} إلى قوله:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة:266]، فإن هذا يحتاج إلى تفكر؛ ولهذا سأل عمر عنها من حضره من الصحابة فأجابه ابن عباس بالجواب الذى أرضاه.
ونظير ذلك ذكر القصص، فإنها كلها أمثال هى أصول قياس واعتبار، ولا يمكن هناك تعديد ما يعتبر بها، لأن كل إنسان له فى حالة منها نصيب، فيقال فيها: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111]، ويقال عقب حكايتها:{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، ويقال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} إلى قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران:13]، والاعتبار هو القياس بعينه، كما قال ابن عباس لما سئل عن دية الأصابع فقال: هى سواء، واعتبروا ذلك بالأسنان،أى:قيسوها بها، فإن الأسنان مستوية الدية مع اختلاف المنافع، فكذلك الأصابع، ويقال: اعتبرت الدراهم بالصَّنْجَة إذا قدرتها بها.
النوع الثانى: الأمثال الكلية، وهذه التى أشكل تسميتها أمثالا، كما أشكل تسميتها قياساً، حتى اعترض بعضهم قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73]، فقال: أين المثل المضروب؟ وكذلك إذا سمعوا قوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} [الروم:58]،يبقون حيارى لا يدرون ما هذه الأمثال، وقد رأوا عدد ما فيه من تلك الأمثال المعينة بضعاً وأربعين مثلا.
وهذه الأمثال تارة تكون صفات، وتارة تكون أقيسة، فإذا كانت أقيسة فلابد فيها من خبرين هما قضيتان وحكمان، وأنه لابد أن يكون أحدهما كلياً؛ لأن الأخبار التى هى القضايا لما انقسمت إلى معينة ومطلقة وكلية وجزئية، وكل من ذلك انقسم إلى خبر عن إثبات وخبر عن نفى، فضرب المثل الذى هو القياس لابد أن يشتمل على خبر عام وقضية كلية، وذلك هو المثل الثابت فى العقل الذى تقاس به الأعيان المقصود حكمها، فلولا عمومه لما أمكن الاعتبار لجواز أن يكون المقصود حكمه خارجاً عن العموم؛ ولهذا يقال: لا قياس عن قضيتين جزئيتين، بل لابد أن تكون إحداهما كلية، ولا قياس أيضا عن سالبتين، بل لابد أن تكون إحداهما موجبة، وإلا السلبان لا يدخل أحدهما فى الآخر، لابد فيه من خبر يعم.
وجملة ما يضرب من الأمثال ستة عشر؛ لأن الأولى إما جزئية وإما كلية، مثبتة أو نافية، فهذه أربعة إذا ضربتها فى أربعة صارت ستة عشر، تحذف منهمـا الجزئيتين سواء كانتا موجبتين أو سالبتين، أو إحداهما سالبة والأخرى موجبة، فهذه ست من ستة عشر، والسالبتين سواء كانتا جزئيتين أو كليتين، أو إحداهما دون الأخرى، لكن إذا كانتا جزئيتين سالبتين فقد دخلت فى الأول، يبقى ضربان محذوفين مـن ستة عشر. ويحذف منهما السالبة الكلية الصغرى مع الكبرى الموجبة الجزئية؛ لأن الكبرى إذا كانت جزئية لم يجب أن يلاقيها السلب، بخلاف الإيجاب، فإن الإيجابين الجزئيين يلتقيان، وكذلك الإيجاب، الجزئى مع السلب الكلى يلتقيان لاندراج ذلك الموجب تحت السلب العام.
يبقى من الستة عشر ستة أضرب، فإذا كانت إحداهما موجبة كلية جاز فى الأخرى الأقسام الأربعة، وإذا كانت سالبة كلية جاز أن تقارنها الموجبتان، لكن تقدم مقارنة الكلية لها، ولابد فى الجزئية أن تكون صغرى، وإذا كانت موجبة جزئية جاز أن تقارنها الكليتان، وقد تقدمتا، وإذا كانت سالبة جزئية لم يجز أن يقارنها إلا موجبة كلية، وقد تقدمت، فيقر الناتج ستة، والملغى عشرة، وبالاعتبارين تصير ثمانية.
فهذه الضروب العشرة مدار ثمانية منها على الإيجاب العام، ولابد فى جميع ضروبه من أحد أمرين، إما إيجاب وعموم، وإما سلب وخصوص، فنقيضان لا يفيد اجتماعهما فائدة، بل إذا اجتمع النقيضان من نوعين كسالبة كلية وموجبة جزئية فتفيد بشرط كون الكبري هي العامة، فظهر أنه لابد في كل قياس من ثبوت وعموم، إما مجتمعين في مقدمة وإما مفترقين في المقدمتين.
وأيضاً، مما يجب أن يعلم أن غالب الأمثال المضروبة والأقيسة، إنما يكون الخفى فيها إحدى القضيتين، وأما الأخرى فجلية معلومة، فضارب المثل وناصب القياس إنما يحتاج أن يبين تلك القضية الخفية، فيعلم بذلك المقصود لما قاربها فى الفعل من القضية السلبية والجلية هى الكبرى التى هى أعم.
فإن الشىء كلما كان أعم كان أعرف فى العقل لكثرة مرور مفرداته فى العقل، وخير الكلام ما قل ودل؛ فلهذا كانت الأمثال المضروبة فى القرآن تحذف منها القضية الجلية لأن فى ذكرها تطويلاً وعِيّا، وكذلك ذكر النتيجة المقصودة بعد ذكر المقدمتين يعد تطويلا.
واعتبر ذلك بقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، ما أحسن هذا البرهان! فلو قيل بعده: وما فسدتا فليس فيهما آلهة إلا الله لكان هذا من الكلام الغث الذى لا يناسب بلاغة التنزيل،وإنما ذلك من تأليف المعانى فى العقل مثل تأليف الأسماء من الحروف فى الهجاء والخط إذا علمنا الصبى الخط نقول: (بـا) (سين) (ميم) صارت (بسم)، فإذا عقل لم يصلح له بعد ذلك أن يقرأه تهجياً فيذهب ببهجة الكلام؛ بل قد صار التأليف مستقراً، وكذلك النحوى إذا عرف أن (محمد رسول الله) مبتدأ وخبر لم يلف كلما رفع مثل ذلك أن يقول لأنه مبتدأ وخبر. فتأليف الأسماء من الحروف لفظاً ومعنى، وتأليف الكلم من الأسماء، وتأليف الأمثال من الكلم جنس واحد.
ولهذا كان المؤلفون للأقيسة يتكلمون أولاً فى مفردات الألفاظ والمعانى التى هى الأسماء، ثم يتكلمون فى تأليف الكلمات من الأسماء الذى هو الخبر والقضية والحكم، ثم يتكلـمون فى تأليـف الأمثـال المضـروبة الذى هو (القـياس) و (البرهان) و (الدلـيل) و(الآيـة) و(العلامة). فهذا مما ينبغى أن يتفطن له، فإن من أعظم كمال القرآن تركه فى أمثاله المضروبة وأقيسته المنصوبة لذكر المقدمة الجلية الواضحة المعلومة،ثم اتباع ذلك بالأخبار عن النتيجة التى قد علم من أول الكلام أنها هى المقصود؛ بل إنما يكون ضرب المثل بذكر ما يستفاد ذكره وينتفع بمعرفته، فذلك هو البيان، وهو البرهان، وأما ما لا حاجة إلى ذكره فذكره عىٌّ.
وبهذا يظهر لك خطأ قوم من البيانيين الجهال والمنطقيين الضُّلال حيث قال بعض أولئك:الطريقة الكلامية البرهانية فى أساليب البيان ليست فى القرآن إلا قليلا، وقال الثانى: إنه ليس فى القرآن برهان تام، فهؤلاء من أجهل الخلق باللفظ والمعنى، فإنه ليس فى القرآن إلا الطريقة البرهانية المستقيمة لمن عَقَل وتدبر.
وأيضاً، فينبغى أن يعرف أن مضار ضرب المثل ونصب القياس على العموم والخصوص والسلب والإيجاب؛ فإنه ما من خبر إلا وهو إما عام أو خاص؛ سالب أو موجب، فالمعين خاص محصور، والجزئى أيضاً خاص غير محصور، والمطلق إما عام وإما فى معنى الخاص.
فينبغى لمن أراد معرفة هذا الباب أن يعرف صيغ النفى والعموم؛ فإن ذلك يجىء فى القرآن على أبلغ نظام.
مثال ذلك: أن (صيغة الاستفهام) يحسب من أخذ ببادئ الرأى أنها لا تدخل فى القياس المضروب؛ لأنه لا يدخل فيه إلا القضايا الخبرية، وهذه طلبية، فإذا تأمل وعلم أن أكثر استفهامات القرآن ـ أو كثيراً منها ـ إنما هى استفهام إنكار معناه الذم والنهى إن كان إنكاراً شرعياً، أو معناه النفى والسلب إن كان إنكار وجود ووقوع، كما فى قوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78]، {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ}الآية [الروم:28]، وكذلك قوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59]، وقوله فى تعديد الآيات: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} [النمل:60ـ64]، أى: أفعل هذه إله مع الله؟! والمعنى:ما فعلها إلا الله، وقوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] وما معها.
وهذا الذى ذكرناه الذى جاء به القرآن هو ضرب الأمثال من جهة المعنى، وقد يعبر فى اللغة بضرب المثل أو بالمثل المضروب عن نوع من الألفاظ،فيستفاد منه التعبير كما يستفاد من اللغة، لكن لايستفاد منه الدليل على الحكم كأمثال القرآن، وهو أن يكون الرجل قد قال كلمة منظومة أو منثورة لسبب اقتضاه فشاعت فى الاستعمال، حتى يصار يعبر بها عن كل ما أشبه ذلك المعنى الأول، وإن كان اللفظ فى الأصل غير موضوع لها، فكأن تلك الجملة المثلية نقلت بالعرف من المعنى الخاص إلى العام كما تنقل الألفاظ المفردة، فهذا نقل فى الجملة مثل قولهم:(يداك أوْكتََا، وفُوكَ نَفَخ) هو مواز لقولهم:(أنت جنيت هذا)؛ لأن هذا المثل قيل ابتداء لمن كانت جنايته بالإيكاء والنفخ، ثم صار مثلا عاماً، وكذلك قولهم: (الصَّيْف ضَيَّعْتِ اللبن) [هذا المثل فى الأصل خوطبت به امرأة، وهى دختنوس بنت لقيط بن زرارة، كانت تحب عمرو بن عمرو بن عدس، وكان شيخا كبيرا، ففركته فطلقها، ثم تزوجها فتى جميل الوجه، وأجدبت، فبعثت إلى عمرو تطلب منه حلوبة، فقال عمرو:(فى الصيف ضيعتِ اللبن). وإنما خص الصيف لأن سؤالها الطلاق كان في الصيف، وهذا المثل يضرب لمن يطلب شيئا قد فوته على نفسه] مثل قولك: (فرطت وتركت الحزم، وتركت ما يحتاج إليه وقت القدرة عليه حتى فات)، وأصل الكلمة قيلت للمعنى الخاص.
وكذلك (عَسَى الغُوَيْرُ أبْؤُسَا) أى:أتخاف أن يكون لهذا الظاهر الحسن باطن ردىء؟ فهذا نوع من البيان يدخل فى اللغة والخطاب، فالمتكلم به حكمه حكم المبين بالعبارة الدالة، سواء كان المعنى فى نفسه حقاً أو باطلا؛ إذ قد يتمثل به فى حق من ليس كذلك، فهذا تطلبه فى القرآن من جنس تطلب الألفاظ العرفية، فهو نظر فى دلالة اللفظ على المعنى لا نظر فى صحة المعنى ودلالته على الحكم، وليس هو المراد بقوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} [الروم:58]، فتدبر هذا فإنه يجلو عنك شبهة لفظية ومعنوية.
وهذه الأمثال اللغوية أنواع، موجود فى القرآن منها أجناسها، وهى مُعْلِنة ببلاغة لفظه ونظمه وبراعة بيانه اللفظى، والذين يتكلمون فى علم البيان وإعجاز القرآن يتكلمون فى مثل هذا، ومن الناس من يكون أول ما يتكلم بالكلمة صارت مثلا، ومنهم من لا تصير الكلمة مثلا حتى يتمثل بها الضارب فيكون هذا أول من تمثل بها، كقوله صلى الله عليه وسلم: (الآن حَمِىَ الوَطِيسُ) [الوطيس: شبه التَّنُّور، عبر عن اشتباك الحرب وقيامها على ساق]، وكقوله: (مِسْعَرُ حَرْب) ونحو ذلك، لكن النفى بصيغة الاستفهام المضمن معنى الإنكار هو نفى مضمن دليل النفى، فلا يمكن مقابلته بمنع، وذلك أنه لا ينفى باستفهام الإنكار إلا ما ظهر بيانه أو ادعى ظهور بيانه، فيكون ضاربه إما كاملا فى استدلاله وقياسه وإما جاهلاً، كالذى قال: { مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78].
إذا تبين ذلك، فالأمثال المضروبة فى القرآن منها ما يصرح فيه بتسميته مثلا، ومنها ما لا يسمى بذلك...[بياض بالأصل] {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ} [البقرة:17]،والذى يليه:{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]،{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} [البقرة:171]،{وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} [البقرة:214]،{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} [البقرة:261]،{لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ} الآية [البقرة:264]، {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ} [البقرة:265]،والذى بعده ليس فيه لفظ(مثل):{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} [آل عمران:11]، فى الثلاثة:{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} [آل عمران:13]، {مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 117]، وقوله:{أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ} [الأنعام:64].
ومن هذا الباب قوله:{لاَّ أَقُولُ لَكُمْ} الآية [هود:31]، ويسمى جدالا {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} إلى قوله: {ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} [الأعراف:176]،{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء} الآية [يونس:24]،{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ} [هود:24]،{إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء} [الرعد:14]، وقول يوسف: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ} [يوسف:39]، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} الآية[الرعد: 61]، {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء} إلى قوله: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد:17]، {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الرعد:35]، {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ
أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ}
[إبراهيم:18]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} إلى آخر {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} [إبراهيم:24ـ 45]،{لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} [النحل:60]، {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]، {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا} [النحل:75]،والذى بعده:{وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً} [النحل:112]،{انظُرْ
كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ}
[الإسراء:48] في موضعين،{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} [الإسراء:89]، بعد أدله التوحيد والنبوة والتحدي بالقرآن {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ} [الكهف:32] القصة، {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:45]، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]، ينبه على أنها براهين وحجج تفيد تصوراً أو تصديقاً {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء} [الحج:31]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73]، {وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ}[النور:34]،{مّثّلٍ نٍورٌهٌ } إلى قوله: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} [النور:35]،{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} [النور:39] المثلين، مثل نور المؤمنين فى المساجد وأولئك فى الظلمات {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:33]، فالتفسير يعم التصوير، ويعم التحقيق بالدليل، كما فى تفسير الكلام المشروح {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء} الآية[العنكبوت:41]، {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} [العنكبوت:43]، {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم:27]، {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ}[الروم:28]،{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا
لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ}
الآية[الروم:58]، {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس:13]،{فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:77،78]، وقوله: {ِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص:23]، {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} إلى قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا} [الزمر:27ـ29]، {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} [الزخرف:57]، إلى آخره لما أوردوه نقضا على قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:98]، فهم الذين ضربوه جدلا، {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا} إلى قوله:{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد:1-3]،{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا} [الحشر:15]، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ} [الحشر:16]، {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} [الحشر:21]، {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا}الآية [الجمعة:5]،{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} [التحريم:10]، و{لِّلَّذِينَ آمَنُوا} [التحريم:11]، {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [المدثر:31]،{كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}[المعارج:43]،{كَالْفَرَاشِ} [القارعة:4]، و{كَالْعِهْنِ} [القارعة:5].
وقال شيخ الإِسَلام ـ رَحِمهُ الله تعالى :
هذه تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد فى طائفة من (كتب التفسير) إلا ما هو خطأ فيها.
منها قوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ....} الآيتان [البقرة:62،63]، فهو ـ سبحانه ـ وصف أهل السعادة من الأولين والآخرين، وهو الذى يدل عليه اللفظ ويعرف به معناه من غير تناقض، ومناسبة لما قبلها ولما بعدها، وهو المعروف عند السلف، ويدل عليه ما ذكروه من سبب نزولها بالأسانيد الثابتة عن سفيان، عن ابن أبى نَجِيح، عن مجاهد، قال سلمان: سألت النبى صلى الله عليه وسلم عن أهل دِينٍ كنتُ معهم. فذكر من عبادتهم، فنزلت الآية. ولم يذكر فيه أنهم من أهل النار، كما روى بأسانيد ضعيفة، وهذا هو الصحيح كما فى مسلم: (إلا بقايا من أهل الكتاب).
والنبى صلى الله عليه وسلم لم يكن يجيب بما لا علم عنده، وقد ثبت أنه أثنى على من مات فى الفَتْرَة [الفًتْرَة: ما بين كل نَبِيًّن]، كزيد بن عمرو وغيره، ولم يذكر ابن أبى حاتم خلافا عن السلف، لكن ذكر عن ابن عباس ثم أنزل اللّه:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا} الآية [آل عمران:85]، ومراده: أن اللّه يبين أنه لا يقبل إلا الإسلام من الأولين والآخرين، وكثير من السلف يريد بلفظ النسخ رفع ما يظن أن الآية دالة عليه؛ فإن من المعلوم أن من كذب رسولا واحداً فهو كافر، فلا يتناوله قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إلخ [البقرة: 62].
وظن بعض الناس أن الآية فيمن بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، فغلطوا، ثم افترقوا على أقوال متناقضة.
وقال شيخ الإسلام ـ قدَّسَ اللَّه روحهُ:
فصــل
قسم اللّه من ذمه من أهل الكتاب إلى مُحَرِّفين وأمِّييّن، حيث يقول: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 75-79].
وفى هذا عبرة لمن ركب سُنَّتَهم من أمتنا؛ فإن المنحرفين فى نصوص الكتاب والسنة ـ كالصفات ونحوها من الأخبار والأوامرـ قوم يحرفونه إما لفظاً وإما معنى، وهم النافون لما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم جحوداً وتعطيلا، ويدعون أن هذا موجب العقل الصريح القاضى على السمع.
وقوم لا يزيدون على تلاوة النصوص لا يفقهون معناها، ويدعون أن هذا موجب السمع الذى كان عليه السلف، وأن اللّه لم يرد من عباده فهم هذه النصوص، فهم {لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]، أى تلاوة {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [البقرة: 78].
ثم يصنف أقوام علوما يقولون: إنها دينية، وإن النصوص دلت عليها والعقل، وهى دين الله مع مخالفتها لكتاب الله، فهؤلاء الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون:هو من عند اللّه بوجه من الوجوه.
فتدبر كيف اشتملت هذه الآيات على الأصناف الثلاثة، وقوله فى صفة أولئك: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ} [البقرة: 76]، حال من يكتم النصوص التى يحتج بها منازعه، حتى إن منهم من يمنع من رواية الأحاديث المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو أمكنهم كتمان القرآن لكتموه، لكنهم يكتمون منه وجوه دلالته من العلوم المستنبطة منه، ويعوضون الناس عن ذلك بما يكتبونه بأيديهم ويضيفونه إلى أنه من عند اللّه.
وَسُئِلَ عن معنى قوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة:106] واللّه ـ سبحانه ـ لا يدخل عليه النسيان.
فأجــاب:
أما قوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة: 106]، ففيها قراءتان، أشهرهما:{أَوْ نُنسِهَا} أى: ننسيكم إياها، أى: نسخنا ما أنزلناه، أو اخترنا تنزيل ما نريد أن ننزله نأتكم بخير منه أو مثله، والثانية: (أو ننسأها) بالهمز، أى نؤخرها، ولم يقرأ أحد: (ننساها)، فمن ظن أن معنى ننسأها بمعنى: ننساها، فهو جاهل بالعربية والتفسير، قال ـ موسى عليه السلام: {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} [طه:52]،و النسيان مضاف إلى العبد كما فى قوله: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ} [الأعلى:6، 7]؛ ولهذا قرأها بعض الصحابة: (أو تنساها) أى:تنساها يا محمد،وهذا واضح لا يخفى إلا على جاهل،لا يفرق بين ننسأها بالهمز وبين ننساها بلا همز، واللّه أعلم.
قَال أبو العبَّاس أحْمَد بن تيمية ـ رَحِمهُ اللَّه تعالى :
فى قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية [البقرة: 178]،وفيها قولان:
أحدهما: أن القصاص هو القَوَد، وهو أخذ الدية بدل القتل،كما جاء عن ابن عباس أنه كان فى بنى إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية، فجعل اللّه فى هذه الأمة الدية فقال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178]، والعفو هو أن يقبل الدية فى العَمْد {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:178] مما كان على بنى إسرائيل، والمراد على هذا القول أن يقتل الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنِثى بالأنثى. قال قتادة: إن أهل الجاهلية كان فيهم بَغِىٌّ،وكان الحى إذا كان فيهم عدد وعُدَّة فقتل عبدَهم عبدُ قوم آخرين، لن يقتل به إلا حراً تعززاً على غيرهم، وإن قتلت امرأةٌ منهم امرأةً من آخرين قالوا:لن يقتل بها إلا رجلا،فنزلت هذه الآية.وهذا قول أكثر الفقهاء،وقد ذكر ذلك الشافعى وغيره.
ويحتج بها طائفة من أصحاب مالك والشافعى وأحمد على أن الحر لا يقتل بالعبد؛ لقوله: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة:178] فينقض ذلك عليه بالمرأة؛ فإنه قال:{وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة:178]، وطائفة من المفسرين لم يذكروا هذا القول.
القول الثانى: أن القصاص فى القتلى يكون بين الطائفتين المقتتلتين قتال عَصَبِيَّة وجاهلية، فيقتل من هؤلاء ومن هؤلاء أحرار وعبيد ونساء، فأمر الله ـ تعالى ـ بالعدل بين الطائفتين، بأن يقاص دية حر بدية حر، ودية امرأة بدية امرأة، وعبد بعبد، فإن فضل لإحدى الطائفتين شىء بعد المقاصة فلتتبع الأخرى بمعروف، ولتؤد الأخرى إليها بإحسان، وهذا قول الشَّعْبِى وغيره، وقد ذكره محمد بن جرير الطبرى وغيره، وعلى هذا القول فإنه إذا جعل ظاهر الآية لزمته إشكالات،لكن المعنى الثانى هو مدلول الآية ومقتضاه ولا إشكال عليه، بخلاف القول الأول يستفاد من دلالة الآية، كما سننبه عليه إن شاء [في المطبوعة: ـ إنشاد ـوهو خطأ] الله تعالى، وما ذكرناه يظهر من وجوه:
أحدها: أنه قال:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] و(القصاص) مصدر قاصه يقاصه مقاصة وقصاصاً، ومنه مقاصة الدينين أحدهما بالآخر و{بًقٌصّاصٍ فٌي بًقّتًلّى}إنما يكون إذا كان الجميع قتلى، كما ذكر الشعبى فيقاص هؤلاء القتلى بهؤلاء القتلى، أما إذا قتل رجل رجلا فالمقتول ميت، فهنا المقتول لا مقاصة فيه، ولكن القصاص أن يمكن من قتل القاتل لا غيره، وفى اعتبار المكافآت فيه قولان للفقهاء: قيل: تعتبر المكافآت فلا يقتل مسلم بذمى ولا حر بعبد، وهو قول الأكثرين مالك والشافعى وأحمد. وقيل: لا تعتبر المكآفات كقول أبى حنيفة، والمكافآت لا تسمى قصاصاً.
وأيضاً فإنه قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وإن أريد بالقصاص المكافآت فتلك لم تكتب، وإن أريد به استيفاء القَوَد فذلك مباح للولى، إن شاء اقتص وإن شاء لم يقتص فلم يكتب عليه الاقتصاص، وقد أورد هذا السؤال بعضهم وقال: هو مكتوب على القاتل أن يمكن من نفسه، فيقال له: هو تعالى قال:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وليس هذا خطاباً للقاتل وحده بل هو خطاب لأولياء المقتول، بدليل قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} ثم لا يقال للقاتل: كتب عليك القصاص فى المقتول فإن المقتول لا قصاص فيه.
وأيضا، فنفس انقياد القاتل للولى ليس هو قصاصا، بل الولي له أن يقتص وله ألا يقتص، وإنما سمى هذا قوداً لأن الولى يقوده، وهو بمنزلة تسليم السلعة إلى المشترى، ثم قال تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} فكيف يقال: مثل هذا قصده القاتل، بل هذا الخطاب للأمة بالمقاصة والمعادلة فى القتل. والنبى صلى الله عليه وسلم إنما قال: (كتاب اللّه القصاص) لما كَسَرَتِ الرُّبَيِّع سِنّ جارية وامتنعوا من أخذ الأرْش، فقال أنس بن النضر: لا والذى بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: (يا أنس، كتاب اللّه القصاص) فرضى القوم بالأرش، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد اللّه من لو أقسم على اللّه لأبَرَّه)، كقوله تعالى: {$ّالًجٍرٍوحّ قٌصّاصِ } [المائدة: 54]، يعنى (كتاب اللّّه) أن يؤخذ العضو بنظيره، فهذا قصاص لأنه مساواة؛ ولهذا كانت المكافآت فى الأعضاء والجروح معتبرة باتفاق العلماء، وإن قيل: القصاص هو أن يقتل قاتله لا غيره فهو خلاف الاعتداء، قيل: نعم! وهذا قصاص فى الأحياء لا فى القتلى.
الثانى: أنه قال: {فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} ومعلوم باتفاق المسلمين أن العبد يقتل بالعبد وبالحر، والأنثى تقتل بالأنثى وبالذكر، والحر يقتل بالحر وبالأنثى ـ أيضا ـ عند عامة العلماء . وقيل: يشترط أن تؤدى تمام ديته، وإذا كان كذلك فقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة:178] إنما يدل على مقاصة الحر بالحر ومعادلته به ومقابلته به،وكذلك العبد بالعبد والأنثى بالأنثى، وهذا إنما يكون إذا كانوا مقتولين فيقابل كل واحد بالآخر، وينظر: أيتعادلان أم يفضل لأحدهما على الآخر فضل، أما فى القتلى فلا يختص هذا بهذا باتفاق المسلمين.
الثالث: أنه قال:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} لفظ {عُفِيَ} هنا قد استعمل متعديا؛ فإنه قال: {عُفِيَ}،{شَيْءٌ} ولم يقل: (عفا) (شيئا) وهذا إنما يستعمل فى الفعل، كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219]، وأما العفو عن القتل فذاك يقال فيه: عفوت عن القاتل، فَوَلِىُّ المقتول بين خيرتين: بين أن يعفو عن القتل ويأخذ الدية فلم يعف له شىء،بل هو عفا عن القتل وإذا عفا فإما أن يستحق الدية بنفسه أو بغير رضا القاتل على قولين.
وقد قال بعضهم: {مِنْ أَخِيهِ} أى:من دم أخيه، أى:ترك له القتل ورضى بالدية، والمراد القاتل، يعنى: إن القاتل عفى له من دم أخيه المقتول، أى: ترك له القتل، فيكون التقدير: أن الولى عفـى للقاتل من دم المقتول شيئاً، وهذا كلام لا يعرف، لا يقال: عفوت لك شيئاً، ولا يقال: عفوت من دم القاتل، وإنما الذى يقال:إنه عفا عن القاتل، فأين هذا من هذا؟
وأما على القول الأول، فالمتقاصان إذا تعادى القتلى فمن عفى له، أى: فضل له من مقاصة أخيه مقاصة أخرى، أى:هذا الذى فضل له فضل كما يقال: أبقى له من جهة أخيه بقية{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} فهذا المستحق للفضل يتبع المقاص الآخر بالمعروف، وذلك يؤدى إلى هذا بإحسان {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} أى: من أن كل طائفة تؤدى قتلى الأخرى، فإن فى هذا تثقيلا عظيما له {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]، فإنهم إذا تعادوا القتلى وتقاصوا وتعادلوا لم يبق واحدة تطلب الأخرى بشىء فحَيِىَ هؤلاء وَحيِىَ هؤلاء، بخلاف ما إذا لم يتقاصوا فإنهم يتقاتلون، وتقوم بينهم الفتن التى يموت فيها خلائق، كما هو معروف فى فتن الجاهلية والإسلام، وإنما تقع الفتن لعدم المعادلة والتناصف بين الطائفتين، وإلا فمع التعادل والتناصف الذى يرضى به أولو الألباب لا تبقى فتنة.
وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} فطلب من الطائفة الأخرى مالا أو قوما أو أذاهم بسبب ما بينهم من الدم {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهذا كقوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9،10]، و(الأخوة) هنا كالأخوة هناك وهذا فى قتلى الفتن.
وأما إذا قتل رجل رجلا من غير فتنة فهم كانوا يعرفون أن القاتل يقتل، لكن كانت الطائفة القوية تطلب أن تقتل غير القاتل، أو من هو أكثر من القاتل، أو اثنين بواحد، وإذا كان القاتل منها لم تقتل به من هو دونه، كما قيل: إنه كان بين قريظة والنضير، لكن هذا لم تُثَر به الفتن، بل فيه ظلم الطائفة القوية للضعيفة، ولم يكن فى الأمم من يقول: إن القاتل الظالم المتعدى مطلقاً لا يقتل، فهذا لم يكن عليه أحد من بنى آدم، بل كل بنى آدم مطبقون على أن القاتل فى الجملة يقتل، لكن الظلمة الأقوياء يفرقون بين قتيل وقتيل.
وقول من قال: إن قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]، معناه: أن القاتل إذا عرف أنه يقتل كف فكان فى ذلك حياة له وللمقتول، يقال له: هذا معنى صحيح، ولكن هذا مما يعرفه جميع الناس، وهو مغروز فى جِبِلَّتِهم، وليس فى الآدميين من يبيح قتل أحد من غير أن يقتل قاتله، بل كلهم مع التساوى يجوزون قتل القاتل ولا يتصور أن الناس... [بياض بالأصل] إذا كان كل من قَدَر على غيره قتله وهو لا يقتل يرضى بمال، وإذا كان هذا المعنى من أوائل ما يعرفه الآدميون ويعلمون أنهم لا يعيشون بدونه صار هذا مثل حاجتهم إلى الطعام والشراب والسكنى، فالقرآن أجل من أن يكون مقصوده التعريف بهذه الأمور البديهية، بل هذا مما يدخل فى معناه، وهو أنه إذا كتب عليهم القصاص فى المقتولين أنه يسقط حر بحر وعبد بعبد وأنثى بأنثى، فجعل دية هذا كدية هذا، ودم هذا كدم هذا متضمن لمساواتهم فى الدماء والديات، وكان بهذه المقاصة لهم حياة من الفتن التى توجب هلاكهم، كما هو معروف، وهذا المعنى مما يستفاد من هذه الآية، فعلم أن دم الحر وديته كدم الحر وديته فيقتل به، وإذا علم أن التقاص يقع للتساوى فى الديات علم أن للمقتول دية.ولفظ القصاص يدل على المعادلة والمساواة، فيدل على أن اللّه أوجب العدل والإنصاف فى أمر القتلى، فمن قتل غير قاتله فهو ظالم، والمقتول وأولياؤه إذا امتنعوا من إنصاف أولياء المقتول فهم ظالمون،هؤلاء خارجون عما أوجبه الله من العدل،وهؤلاء خارجون عما أوجبه الله من العدل .
وقد ذكر ـ سبحانه ـ هذا المعنى فى قوله:{وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33]، وإذا دلت على العدل فى القَوَد بطريق اللزوم والتنبيه ذهب الإشكال، ولم يقل: فلم لا قال: والعبد بالعبد والحر؟ فإنه لم يكن المقصود أنه يقاص به فى القتلى، ومعلوم أنه إنما يقاص الحر بالحر لا بالمرأة، والمرأة بالمرأة لا بالحر، والعبد بالعبد. فظهرت فائدة التخصيص به والمقابلة فى الآية.
ودلت الآية ـ حينئذ ـ على أن الحر يقتل بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى؛ إذا كانا متساويين فى الدم، وبدله هو الدية، ولم ينتف أن يقتل عبد بحر وأنثى بذكر، ولا لها مفهوم ينفى ذلك، بل كما دلت على ذلك بطريق التنبيه والفحوى والأولى، كذلك تدل على هذا أيضاً؛ فإنه إذا قتل العبد بالعبد فقتله بالحر أولى، وإذا قتلت المرأة بالمرأة فقتلها بالرجل أولى.
وأما قتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى فالآية لم تتعرض له لا بنفى ولا إثبات، ولا لها مفهوم يدل عليه، لا مفهوم موافقة ولا مخالفة؛ فإنه إذا كان فى المقاصة يقاس الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى لتساوى الديات، دل ذلك على قتل النظير بالنظير، والأدنى بالأعلى.
يبقى قتل الأعلى الكثير الدية بالأدنى القليل الدية، ليس فى الآية تعرض له؛ فإنه لم يقصد بها ابتداء القود، وإنما قصد المقاصة فى القتلى لتساوى دياتهم.
فإن قيل:دية الحر كدية الحر، ودية الأنثى كدية الأنثى،ويبقى العبيد قيمتهم متفاضلة؟
قيل: عبيدهم كانوا متقاربين القيمة، وقوله: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة:178] قد يراد به بالعبد المماثل به، كما يقال: ثوب بثوب وإن كان أحدهما أغلى قيمة،فذاك مما عفى له، وقد يعفى إذا لم تعرف قيمتهم وهو الغالب، فإن المقتولين فى الفتن عبيدهم الذين يقاتلون معهم، وهم يكونون تربيتهم عندهم لم يشتروهم، فهذا يكون مع العلم بتساوى القيمة ومع الجهل بتفاضلها؛ فإن المجهول كالمعدوم، ولو أتلف كل من الرجلين ثوب الآخر ولا يعلم واحد منهما قيمة واحد من الثوبين، قيل: ثوب بثوب، وهذا لأن الزيادة محتملة من الطرفين؛ يحتمل أن يكون ثوب هذا أغلى، ويحتمل أن يكون ثوب هذا أغلى، وليس ترجيح أحدهما أولى من الآخر، والأصل براءة ذمة كل واحد من الزيادة،فلا تشتغل الذمة بأمر مشكوك فيه لو كان الشك فى أحدهما، فكيف إذا كان من الطرفين؟
فــظهر حكمة قوله:{وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}، وظهر بهذا أن القرآن دل على ما يحتاج الخلق إلى معرفته والعمل به، ويُحقن به دماؤهم ويحيون به، ودخل فى ذلك ما ذكره الآخرون من العدل فى القود.
ودلت الآية على أن القتلى يؤخذ لهم ديات، فدل على ثبوت الدية على القاتل، وأنها مختلفة باختلاف المقتولين،وهذا مما مَنَّ الله به على أمة محمد صلى الله عليه وسلم،حيث أثبت القصاص والدية.
وأما كون العفو هو قبول الدية فى العمد، وأنه يستحق العافى بمجرد عفوه ـ فالآية لم تتعرض لهذا.
ودلت هذه الآية على أن الطوائف المقتتلة تضمن كل منهما ما أتلفته الأخرى؛ من دم ومال بطريق الظلم؛ لقوله:{مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178] بخلاف ما أتلفه المسلمون للكفار، والكفار للمسلمين.
وأما القتال بتأويل (كقتال أهل الجمل وصِفِّين) فلا ضمان فيه ـ أيضا ـ بطريق الأولى عند الجمهور،فإنه إذا كان الكفار المتأولون لا يضمنون،فالمسلمون المتأولون أولى ألا يضمنوا.
ودلت الآية على أن هذا الضمان على مجموع الطائفة يستوى فيه الرِّدْء [الرًّدْءُ: المعين. انظر: المصباح المنير، مادة: ردؤ] والمباشر، لا يقال: انظروا من قتل صاحبكم هذا فطالبوه بديته بل يقال:ديته عليكم كلكم، فإنكم جميعاً قتلتموه؛ لأن المباشر إنما تمكن بمعاونة الردء له، وعلى هذا دل قوله: {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة: 11]، فإن أولئك الكفار كان عليهم مثل صداق هذه المرأة التى ذهبت إليهم، فإذا لم يؤدوه أخذ من أموالهم التى يقدر المسلمون عليها، مثل امرأة جاءت منهم يستحقون صداقها، فيعطى المسلم زوج تلك المرتدة صداقها من صداق هذه المسلمة المهاجرة التى يستحقه الكفار؛ لكونها أسلمت وهاجرت وفوتت زوجها بُضْعَها كما فوتت المرتدة بضعها لزوجها وإن كان زوج المهاجرة ليس هو الذى تزوج بالمرتدة؛ لأن الطائفة لما كانت ممتنعة يمنع بعضها بعضا،صارت كالشخص الواحد.
ولهذا لما قتل خالد من قتل من بنى جذيمة وَدَاهُم النبى صلى الله عليه وسلم من عنده؛ لأن خالداً نائبه وهو لا يمكنهم من مطالبته وحبسه لأنه متأول، وكذلك عَمرو بن أمية وقاتله خالد بن الوليد؛ لأنه قتل هذا على سبيل الجهاد لا لعداوة تخصه، وقد تنازع الفقهاء فى خطأ ولى الأمر؛ هل هو فى بيت المال أو على ذمته؟ على قولين.
ولهذا كان ما غنمته السَّرِيَّة يشاركها فيه الجيش، وما غنمه الجيش شاركته فيه السرية؛ لأنه إنما يغنم بعضهم بظهر بعض، فإذا اشتركوا فى المغرم اشتركوا فى المغنم، وكذلك فى العقوبة يقتل الرِّدْء والمباشر من المحاربين عند جماهير الفقهاء،كما قتل عمر ـ رضى اللّه عنه ـ ربيئة [أى طليعة. انظر: المصباح، مادة: ربأ] المحاربين، وهو قول مالك وأبى حنيفة وأحمد، وهو مذهب مالك فى القتل قوداً، وفى السراق ـ أيضاً.
وبيان دلالة الآية على ذلك: أن المقتولين إذا حبس حر بحر وعبد بعبد وأنثى بأنثى، فالحر من هؤلاء ليس قاتله هو ولى الحر من هؤلاء، بل قد يكون غيره،وكذلك العبد من هؤلاء ليس قاتله هو سيد العبد من هؤلاء بل قد يكون غيره،لكن لما كانوا مجتمعين متناصرين على قتال أولئك ومحاربتهم كان من قتله بعضهم فكلهم قتله، وكلهم يضمنونه؛ ولهذا ما فضل لأحد الطائفتين يؤخذ من مال الأخرى.
فإن قيل: إذا كان مستقراً فى فِطَر بنى آدم أن القاتل الظالم لنظيره يستحق أن يقتل، وليس فى الآدميين من يقول: إنه لا يقتل، فما الفائدة فى قوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} أى: فى التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}الآية [المائدة: 45]، إذا كان مثل هذا الشرع يعرفه العقلاء كلهم؟
قيل لهم: فائدته: بيان تساوى دماء بنى إسرائيل، وأن دماءهم متكافئة ليس لشريفهم مزية على ضعيفهم، وهذه الفائدة الجليلة التى جاءت بها شرائع الأنبياء، فأما الطوائف الخارجون عن شرائع الأنبياء فلا يحكمون بذلك مطلقاً، بل قد لا يقتلون الشريف، وإذا كان الملك عادلا فقد يفعل بعض ذلك، فهذا الذى كتبه الله فى التوراة من تكافؤ دمائهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، فحكم أيضاً فى المؤمنين به من جميع الأجناس بتكافؤ دمائهم، فالمسلم الحر يقتل بالمسلم الحر من جميع الأجناس باتفاق العلماء.
وبهذا ظهر الجواب عن احتجاج من احتج بآية التوراة على أن المسلم يقتل بالذمى؛ لقوله:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} و(شَرْعُ من قَبْلنا شَرْعٌ لنا)، فإنه يقال: الذى كتب عليهم أن النفس منهم بالنفس منهم، وهم كلهم كانوا مؤمنين، لم يكن فيهم كافر، ولم يكن فى شريعتهم إبقاء كافر بينهم لا بجزية ولا غيرها، وهذا مثل شرع محمد صلى الله عليه وسلم؛ أن المسلمين تتكافأ دماؤهم، وليس فى الشريعتين أن دم الكافر يكافئ دم المسلم، بل جعل الإيمان هو الواجب للمكافآت دليل على انتفاء ذلك فى الكافر ـ سواء كان ذمياً أو مستأمناًـ لانتفاء الإيمان الواجب للمكافأة فيه، نعم يحتج بعمومه على العبد.
وليس فى العبد نصوص صريحة صحيحة كما فى الذمى، بل ما روى: (من قتل عبده قتلناه به)، وهذا لأنه إذا قتله ظالماً كان الإمام ولى دمه؛ لأن القاتل كما لا يرث المقتولَ إذا كان حراً، فكذلك لا يكون ولى دمه إذا كان عبداً، بل هذا أولى،كيف يكون دمه وهو القاتل؟ بل لا يكون ولى دمه، بل ورثة القاتل السيد، لأنهم ورثته وهو بالحياة ولم يثبت له ولاية حتى تنتقل إليهم فيكون وليه الإمام. وحينئذ فللإمام قتله، فكل من قتل عبده كان للإمام أن يقتله.
و أيضا، فقد ثبت بالسنة والآثار أنه إذا مَثّل بعبده عتق عليه، وهذا مذهب مالك وأحمد وغيرهما، وقتله أشد أنواع المثْل، فلا يموت إلا حراً، لكن حريته لم تثبت فى حال الحياة حتى يرثه عصبته، بل حريته ثبتت حكما، وهو إذا كان عتق كان ولاؤه للمسلمين، فيكون الإمام هو وليه، فله قتل قاتل عبده.
وقد يحتج بهذا من يقول: إن قاتل عبد غيره لسيده قتله، وإذا دل الحديث على هذا كان هذا القول هو الراجح، والقول الآخر ليس معه نص صريح ولا قياس صحيح، وقد قال الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم: من قتل ولا ولى له كان الإمام ولى دمه، فله أن يقتل، وله أن يعفو على الدية، لا مجاناً.
يؤيد هذا أن من قال: لا يقتل حر بعبد يقول: إنه لا يقتل الذمى الحر بالعبد المسلم، قال اللّه ـ تعالى ـ فى كتابه: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} [البقرة:221]، فالعبد المؤمن خير من الذمى المشرك، فكيف لا يقتل به؟! والعبد المؤمن مثل الحرائر المؤمنات، كما دلت عليه هذه الآية، وهو قول جماهير السلف والخلف، وهذا قوى على قول أحمد؛ فإنه يجوز شهادة العبد كالحر، بخلاف الذمى، فلماذا لا يقتل الحر بالعبد وكلهم مؤمنون، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم) ؟!.
قال شيخ الإِسلاَم ـ رَحِمهُ اللَّه :
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة:217] من باب بدل الاشتمال، والسؤال إنما وقع عن القتال فيه، فلم قدّم الشهر وقد قلتم: إنهم يقدمون ما بيانه أهم وهم به أعنى؟
قيل: السؤال لم يقع منهم إلا بعد وقوع القتال فى الشهر وتشنيع أعدائهم عليهم انتهاكه وانتهاك حرمته، وكان اهتمامهم بالشهر فوق اهتمامهم بالقتال، فالسؤال إنما وقع من أجل حرمة الشهر، فلذلك قدم فى الذِّكْر، وكان تقديمه مطابقا لما ذكرنا من القاعدة.
فإن قيل: فما الفائدة فى إعادة ذكر القتال بلفظ الظاهر، وهلا اكتفى بضميره فقال: هو كبير؟ وأنت إذا قلت: سألته عن زيد هو فى الدار كان أوجز من أن تقول: أزيد فى الدار؟
قيل: فى إعادته بلفظ الظاهر بلاغة بديعة، وهو تعليق الحكم الخبرى باسم القتال فيه عموماً، ولو أتى بالمضمر فقال: هو كبير، لتَوَهَّم اختصاص الحكم بذلك القتال المسؤول عنه. وليس الأمر كذلك؛ وإنما هو عام فى كل قتال وقع فى شهر حرام.
ونظير هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم ـ وقد سئل عن الوضوء بماء البحر فقال: (هو الطَّهُور ماؤه)، فأعاد لفظ الماء ولم يقتصر على قوله: (نعم توضؤوا به)؛ لئلا يتوهم اختصاص الحكم بالسائلين لضرب من ضروب الاختصاص فعدل عن قوله:(نعم توضؤوا)إلى جواب عام يقتضى تعليق الحكم والطهور به بنفس مائه من حيث هو، فأفاد استمرار الحكم على الدوام، وتعلقه بعموم الأمة، وبطل توهم قصره على السبب، فتأمله فإنه بديع.
فكذلك فى الآية لما قال: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}، فجعل الخبر بـ {كَبِيرٌ} واقعا عن {قِتَالٌ فِيهِ} فيتعلق الحكم به على العموم، ولفظ (المضمر) لا يقتضى ذلك.
وقريب من هذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِين} [الأعراف:170] ولم يقل: أجرهم، تعليقا لهذا الحكم بالوصف وهو كونهم مصلحين، وليس فى الضمير ما يدل على الوصف المذكور.
وقريب منه ـ وهو ألطف منه ـ قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، ولم يقل فيه تعليقاً بحكم الاعتزال بنفس الحيض، وأنه هو سبب الاعتزال، وقال: {قُلْ هُوَ أَذًى} ولم يقل: (المحيض أذى) لأنه جاء به على الأصل،ولأنه لو كرره لثقل اللفظ به لتكرره ثلاث مرات، وكان ذكره بلفظ الظاهر فى الأمر بالاعتزال أحسن من ذكره مضمرا ليفيد تعليق الحكم بكونه حيضا، بخلاف قوله: {قُلْ هُوَ أَذًى} فإنه إخبار بالواقع، والمخاطبون يعلمون أن جهة كونه أذى هو نفس كونه حيضاً، بخلاف تعليق الحكم به، فإنه إنما يعلم بالشرع، فتأمله.